فضاء حر

رجال الدولة العميقة في اليمن

لم تقُم الثورة الشبابية الشعبية في اليمن؛ ليكون تقدير فعلها وأثرها النهائي بدرجة: "مقبول" أو جيد، أو "حَضَرت موجة الربيع العربي". ولم يكن مبتغى الثائرين، أن يصبح الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، ورموز حكمه ممن أصروا على البقاء معه، أو أولئك الذين خرجوا عليه؛ هم ذاتهم من يحكمون قبضتهم على البلاد أو يتنازعون على ا

لسلطة والمال والجاه والنفوذ تحت أي مبرر، في شمال الشمال أو جنوب الجنوب أو في الوسط.

إن الثورة التي سقط على دربها أشجع الرؤوس، وأُهرقت فيها أزكى الدماء، وتغنت بها أجمل القصائد وأطلق الحناجر؛ هي التي كانت تقصد ترميم الوطن من شروخه وتصدعاته المتزايدة، التي افتعلها دعاة التوريث، وتجار الحروب، وأبواق العنصرية والطائفية، وأذناب الانفصال، وسرّاق الثروات، ورجال المعتقلات السرية، والشيوخ المستبدون الذين استلذوا قهر البسطاء والفلاحين، وصادروا هبة الله الأولى؛ الحرية.

إن كل أولئك؛ سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، هم من يمكن توصيفهم برجال الدولة العميقة في اليمن، مع تجاوز مفهوم الدولة واصطلاحها السياسي والاجتماعي، الذي بدا مشوها طيلة خمسة عقود مضت، لأنهم كانوا المائة نفر الذين يديرون البلاد، بعيدا عن أفلاكها السياسية المعلنة، ومؤسساتها الدستورية المنتخبة، ويتصرفون فيها تصرف الإقطاعيين فيما يملكون، وكادت البلاد أن تتحول إلى ممالك جغرافية، وعسكرية، وسلطوية ممزقة، فيما كان بقية الاثنين والعشرين مليونا من هذا الشعب يترقبون خلاص الله!!

ولنتذكر؛ فإن الذكرى تنفع كل مؤمن.. ففي منتصف السبعينات، أطلق الرئيس الراحل إبراهيم محمد الحمدي، عبارة لاذعة مؤذِنة بالتغيير الجاد، لكنها لم ترُق للنواة الأولى لرجال الدولة العميقة الذين تغولوا في فترة حكم الرئيس صالح، تلك العبارة هي قوله:"إن شهر العسل قد ولّى" أو هكذا سُمع عنه، وقد كان الرجل يقول ذلك، وهو يثق تمام الثقة أن الناس يعرفون أنه لا يدخر لنفسه دينارا ولا درهما، ولا يملك عمارة أو قطعة بسيطة من الأرض في اليمن أو خارجها، أو أنه يملك سيارة أو طائرة خاصة، كما لم يكن مساهما في مصنع خاص أو جامعة أو شركة خاصة، ولذلك؛ حمل عليه أولئك الرجال الوصوليون قبل أن تينع ثمرة ندائه، ويأخذهم سيل الجماهير الغاضبة.

وبالمثل؛ فإن العار الذي وصف به صاحب" لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله…" كل متشدق بالقول، ومناقض له بالفعل؛ يُوصَم به كل رجل من رجال الرئيس السابق، بمن فيهم الرئيس ذاته، ولذلك؛ فقد أصبحت مقولة الرئيس صالح في أحد مهرجاناته الشعبية، ذات يوم:" لن أكون مظلة للمفسدين" بمثابة اعتراف واضح منه، أن صاحب هذه المظلة واحد من أولئك، ولا عجب أن ارتد نصف ذلك الفساد ليضرب نصفه الآخر، لكنهم لم يتفانوا ولم يدقوا بينهم عطر منشمِ؛ كما قال زهير بن أبي سلمى!!

عودا على بدء؛ فإن بعضا من رجال الدولة العميقة في اليمن، لم تطَل هذه الثورة مواطن فسادهم، ولم تدك حصون فسادهم، بل إنها تغتال يوما إثر يوم، في ظل غفوة تلك الجماهير الثائرة، كما أن المثير للاندهاش كذلك، أنها أقرت لهم ما كان سائدا في عهد نصفهم المنتهي، ثم إنهم ما لبثوا أن بدأوا يخطبون لأنفسهم كل حسناء وإن غلت، ويستفردون بكل حق لهذا الشعب دون حق لهم، وعلى الملايين من هذا الشعب أن تدفع المهر، وأن تسرج القناديل فرحا، وتغني أشجى الألحان، وأن تنسى دم كل شهيد، وصرخة كل مقهور انطلقت في عام الغليان الثوري 2011م، الذي أطاح بنصف تلك العصابة العميقة والعقيمة العطاء.

عجبا أيتها اليمن، كم بكِ من المبكيات!!

زر الذهاب إلى الأعلى